سورة الملك - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الملك)


        


{وَقَالُواْ} أيضاً معترفينَ بأنَّهم لم يكونُوا ممن يسمعُ أو يعقلُ {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ} كلاماً {أَوْ نَعْقِلُ} شيئاً {مَا كُنَّا فِى أصحاب السعير} أي في عدادِهِم ومن أتباعِهِم وهم الشياطينُ لقولِهِ تعالَى: {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير} كأنَّ الخزنةَ قالُوا لهم في تضاعيفِ التوبيخِ ألم تسمعُوا آياتِ ربِّكُم ولم تعقِلُوا معانِيهَا حتَّى لا تُكذبُوا بها فأجابُوا بذلكَ {فاعترفوا بِذَنبِهِمْ} الذي هو كُفرهم وتكذيبُهُم بآياتِ الله ورسولِهِ {فَسُحْقًا} بسكونِ الحاءِ، وقرئ بضمِّها مصدرٌ مؤكدٌ إمَّا لفعلٍ متعدَ من المزيدِ بحذفِ الزوائدِ كَما في قعدكَ الله أي فأسحقَهُم الله أي أبعدَهُم من رحمتِهِ سُحْقَاً أي إسْحَاقاً أو لفعلٍ مترتبٍ على ذلكَ الفعلِ أي فأسحقَهُم الله فسَحقُوا أي بُعدوا سُحقاً أي بُعْداً كما في قولِ مَنْ قالَ:
وعضةُ دهرٍ يا ابْنَ مروانَ لم تَدَع *** مِنَ المالِ إلا مُسْحَتٌ أو مُجلِّفُ
أي لم تدعَ فلم يبقَ إلا مسحتٌ إلخ وعلى هذينِ الوجهينِ قولُه تعالَى: {وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} واللامُ في قولِهِ تعالَى: {لأصحاب السعير} للبيانِ كما في هيتَ لكَ ونحوِهِ والمرادُ بهم الشياطينُ والداخلونَ في عدادِهِم بطريقِ التغليبِ.
{إِنَّ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب} أي يخافونَ عذابَهُ غائباً عنهُم أو غائبينَ عنْهُ أو عن أعينِ النَّاسِ أو بما خَفِيَ منهُم وهو قلوبُهُم {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} عظيمةٌ لذنوبِهِم {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} لا يُقَادرُ قَدرُهُ.
{وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ} بيانٌ لتساوِي السرِّ والجهرِ بالنسبةِ إلى علمِهِ تعالَى كما في قولِه: {سَوَاء مّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} قال ابنُ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهُما نزلتْ في المشركينَ كانُوا ينالُونَ من النبيِّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فيُوحَى إليهِ عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ فقال بعضُهُم لبعضٍ أسرُّوا قولَكُم كيلاَ يسمعَ ربُّ محمدٍ فقيلَ لهُم أسِرُّوا ذلكَ أو اجهروا بهِ فإنَّ الله يعلمهُ، وتقديمُ السرِّ على الجهرِ للإيذانِ بافتضاحِهِم ووقوعِ ما يحذرونَهُ من أولِ الأمرِ والمبالغةِ في بيانِ شمولِ علمِهِ المحيطِ لجميعِ المعلوماتِ كأنَّ علمَهُ تعالَى بما يُسرُّونَهُ أقدرُ منهُ بما يجهرونَ بهِ مع كونِهِما في الحقيقةِ على السويةِ فإنَّ علمَهُ تعالَى بمعلوماتِهِ ليسَ بطريقِ حصولِ صورِهَا بل وجودُ كلِّ شيءٍ في نفسِهِ علمٌ بالنسبةِ إليهِ تعالَى أو لأنَّ مرتبةَ السرِّ متقدمةٌ على مرتبةِ الجهرِ إذْ مَا من شيءٍ يُجهرُ بهِ إلا وهُو أو مباديهِ مضمرٌ في القلبِ يتعلقُ بهِ الأسرارُ غالباً فتعلقُ علمِهِ تعالَى بحالتِهِ الأُولى متقدمٌ على تعلقِهِ بحالتِهِ الثانيةِ. وقولُهُ تعالَى: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} تعليلٌ لما قبلَهُ، وتقريرٌ لهُ. وفي صيغةِ الفعيلِ وتحليةِ الصدورِ بلامِ الاستغراقِ ووصفِ الضمائرِ بصاحبِيتِها من الجزالةِ ما لا غايةَ وارءَهُ كأنَّهُ قيلَ إنه مبالغٌ في الإحاطةِ بمضمراتِ جميعِ الناسِ وأسرارِهِم الخفيةِ المستكنةِ في صدورِهِمْ بحيثُ لا تكادُ تفارقُها أصلاً فكيفَ يَخْفى عليهِ ما تُسرُّونَهُ وتجهرونَ بهِ، ويجوزُ أنْ يُرَادَ بذاتِ الصُّدورِ القلوبُ التي في الصدرِ، والمعنى أنه عليمٌ بالقلوبِ وأحوالِهَا فلا يَخْفَى عليهِ سرٌّ من أسرارِهَا.
وقوله تعالى: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} إنكارٌ ونفيٌ لعدمِ إحاطةِ علمِهِ تعالَى بالمُضمرِ والمُظهرِ، أي ألا يعلمُ السرَّ والجهرَ من أوجدَ بموجبِ حكمتِهِ جميعَ الأشياءِ التي هُمَا من جُملَتِهَا. وقولُهُ تعالَى: {وَهُوَ اللطيف الخبير} حالٌ من فاعلِ يعلمُ مؤكدةٌ للإنكارِ والنَّفيِ، أي ألا يعلمُ ذلكَ والحالُ أنَّه المتوصلُ علمُهُ إلى ما ظهرَ من خلقِهِ وما بطنَ، ويجوزُ أنْ يكونَ مَنْ خَلَقَ منصوباً، والمَعْنَى ألا يعلمُ الله مَنْ خلقَهُ والحالُ أنَّهُ بهذِهِ المثابةِ من شمولِ العلمِ، ولا مساغَ لإخلاءِ العلم عن المفعولِ بإجرائِهِ مَجْرَى يُعْطِي ويمنعُ على مَعْنَى ألا يكونُ عالِماً مَنْ خلقَ لأنَّ الخلقَ لا يتأتَّى بدونِ العلمِ لخلوِّ الحالِ حينئذٍ من الإفادةِ لأنَّ نظمَ الكلامِ حينئدٍ ألا يكونُ عالماً وهو مبالغٌ في العلمِ.


{هُوَ الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً} لينةً يسهلُ عليكُم السلوكُ فيها، وتقديمُ لكُم على مفعُولَي الجعلِ معَ أنَّ حقَّهُ التأخرُ عنهُما للاهتمامِ بِما قُدمَ والتشويقِ إلى ما أُخرَ فإنَّ ما حقَّه التقديمُ إذا أُخرَ لا سيَّما عند كونِ المقدمِ ممَّا يدلُّ على كونِ المؤخرِ من منافعِ المخاطبينَ تبقَى النفسُ مترقبةً لورودِهِ فيتمكنُ لديها عندَ ذكرِهِ فضلُ تمكنٍ. والفاءُ في قولِه تعالَى: {فامشوا فِى مَنَاكِبِهَا} لترتيبِ الأمرِ على الجعلِ المذكورِ أي فاسلكُوا في جوانِبِهَا أو جِبَالِهَا، وهو مَثَلٌ لفرطِ التذليلِ فإن منكبَ البعيرِ أرقُّ أعضائِهِ وأنباها عن أنْ يطأَهُ الراكبُ بقدمِهِ فإذا جُعل الأرضُ في الذُّلِّ بحيثُ يتأتَّى المشيُ في مناكبِهَا لم يبقَ منها شيءٌ لم يتذللْ. {وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ} والتمسُوا من نعمِ الله تعالَى: {وَإِلَيْهِ النشور} أي المرجعُ بعدَ البعثِ لا إلى غيرِه فبالِغُوا في شكرِ نعمِهِ وآلائِهِ.
{ءَأمِنْتُمْ مَّن فِى السماء} أي الملائكةَ الموكلينَ بتدبيرِ هذا العالمِ، أو الله سبحانَهُ على تأويلِ من في السماءِ أمرُهُ وقضاؤهُ، أو على زعمِ العربِ حيثُ كانُوا يزعمونَ أنَّه تعالَى في السماءِ أي أأمنتُم منْ تزعمُونَ أنَّهُ في السماءِ وهُو متعالٍ عن المكانِ. {أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض} بعدَ ما جعلَهَا لكُم ذلولاً تمشون في مناكبِهَا وتأكلونَ من رزقِهِ لكفرانِكُم تلكَ النعمةَ أي يقلبُهَا ملتبسةً بكُم فيغيبكم فيهَا كما فعلَ بقارونَ وهو بدلُ اشتمالٍ مِنْ مَنْ، وقيلَ هو عَلى حذفِ الجارِّ أيْ مِنْ أنْ يخسفَ {فَإِذَا هِىَ تَمُورُ} أي تضطربُ ذهاباً ومجيئاً على خلافِ ما كانَتْ عليهِ من الذُّلِّ والاطمئنانِ {أَمْ أَمِنتُمْ مّن فِى السماء} إضرابٌ عن التهديدِ بما ذُكِرَ، وانتقالٌ إلى التهديدِ بوجهٍ آخرَ، أيْ بلْ أأمنتُم مَنْ في السَّماءِ {أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصبا} أي حجارةً من السماءِ كما أرسلَها على قومِ لوطٍ وأصحابِ الفيلِ، وقيلَ ريحاً فيها حجارةٌ وحصباءُ كأنَّها تقلعُ الحصباءَ لشدَّتِهَا وقوتِهَا وقيلَ هي سحابٌ فيها حجارةٌ {فَسَتَعْلَمُونَ} عن قريبٍ البتةَ {كَيْفَ نَذِيرِ} أي إنذارِي عندَ مُشاهدتِكُم للمنذَرِ بهِ ولكنْ لا ينفعكُم العلمُ حينئذٍ. وقرئ: {فسيعلمُونَ} بالياءِ {وَلَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي من قبلِ كفارِ مكةَ من كفارِ الأممِ السَّالفةِ كقومِ نوحٍ وعادٍ وأضرابِهِم. والالتفاتُ إلى الغيبةِ لإبرازِ الإعراضِ عنهُم {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي إنكارِي عليهِم بإنزالِ العذابِ أي كانَ على غايةِ الهولِ والفظاعةِ وهذا هو موردُ التأكيدِ القسَمِي لا تكذيبُهُم فقطْ، وفيهِ من المبالغةِ في تسليةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وتشديدِ التهديدِ لقومِهِ ما لا يَخْفَى.


{أَوَ لَمْ يَرَوْاْ} أغفَلوا ولم ينظُروا {إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صافات} باسطاتٍ أجنحتهنَّ في الجوِّ عند طيرانِهَا فإنهنَّ إذا بسطنَهَا صفَفنَ قوادِمها صفاً {وَيَقْبِضْنَ} ويضمُمنها إذا ضربنَ بها جنوبهنَّ حيناً فحيناً للاستظهارِ بهِ على التحركِ وهو السرُّ في إيثارِ يقبضنَ الدالِّ على تجددِ القبضِ تارةً بعد تارةٍ على قابضاتٍ {مَا يُمْسِكُهُنَّ} في الجوِّ عند الصفِّ والقبضِ على خلافِ مقتضى الطبعِ {إِلاَّ الرحمن} الواسعُ رحمتُهُ كلَّ شيءٍ بأنْ برأهُنَّ على أشكالٍ وخصائصَ وهيأهُنَّ للجريِ في الهواءِ، والجملةُ مستأنفةٌ أو حالٌ من الضميرِ في يقبضنَ {إِنَّهُ بِكُلّ شَىْء بَصِيرٌ} يعلمُ كيفيةَ إبداعِ المبدعاتِ وتدبيرِ المصنوعاتِ. وقوله تعالى: {أَمَّنْ هذا الذى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مّن دُونِ الرحمن} تبكيتٌ لهم بنفي أنْ يكونَ لهم ناصرٌ غيرُ الله تعالَى كما يلوحُ به التعرضُ لعنوانِ الرحمانيةِ ويعضُدهُ قولُه تعالَى: {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرحمن} أو ناصرٌ من عذابِهِ تعالَى كما هو الأنسبُ بما سيأتي من قولِه تعالَى: {إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} كقولِهِ تعالَى: {أَمْ لَهُمْ الِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مّن دُونِنَا} في المعنيينِ معاً خَلا أنَّ الاستفهامِ هُناكَ متوجهٌ إلى نفسِ المانعِ وتحققهِ وههُنا إلى تعيينِ الناصرِ لتبكيتِهِم بإظهارِ عجزِهِم عن تعيينِهِ، وأم منقطعةٌ مقدرةٌ ببل المفيدةِ للانتقالِ من توبيخِهِم على تركِ التأملِ فيما يشاهدونَهُ من أحوالِ الطيرِ المنبئةِ عن تعاجيبِ آثارِ قدرةِ الله عزَّ وجلَّ إلى التبكيتِ بما ذُكِرَ، والالتفاتُ للتشديدِ في ذلكَ ولا سبيلَ إلى تقديرِ الهمزةِ معَها لأنَّ ما بعدَهَا مَنْ الاستفهاميةُ وهي مبتدأٌ وهذا خبرُهُ والموصولُ مع صلتِهِ صفتُهُ كما في قولِهِ تعالَى: {مَن ذَا الذى يَشْفَعُ عِندَهُ} وإيثارُ هذا لتحقيرِ المشارِ إليهِ. وينصرُكُم صفةٌ لجندٌ باعتبارِ لفظِهِ، ومن دونِ الرحمنِ على الوجهِ الأولِ إما حالٌ من فاعلِ ينصركُم أو نعتٌ لمصدرِهِ وعلى الثاني متعلقٌ بينصركم كما في قولِهِ تعالَى: {مَن يَنصُرُنِى مِنَ الله} فالمَعْنَى بلْ مَنْ هذا الحقيرُ الذي هُو في زعمِكُم جندٌ لكم ينصرُكُم متجاوزاً نصرَ الرحمنِ أو ينصرُكُم نصراً كائناً من دونِ نصرِهِ تعالَى أو ينصرُكُم من عذابٍ كائنٍ من عندِ الله عزَّ وجلَّ. وتوهمُ أنَّ أمَّ معادلةٌ لقولِهِ تعالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ} إلخ معَ القولِ بأنَّ مَنِ استفهاميةٌ مما لا تقريبَ له أصلاً. وقولُه تعالَى: {إِنِ الكافرون إِلاَّ فِى غُرُورٍ} اعتراضٌ مقررٌ لما قبلَهُ ناعِ عليهِم ما هُم فيهِ من غايةِ الضلالِ أي ما هُم في زعمِهِم أنَّهم محفوظونَ من النوائبِ بحفظِ آلهتِهِم لا بحفظِهِ تعالَى فقطْ أو أنَّ آلهتَهُم تحفظهُم من بأسِ الله إلا في غرورٍ عظيمٍ وضلالٍ فاحشٍ من جهةِ الشيطانِ ليسَ لهُم في ذلكَ شيءٌ يعتدُّ بهِ في الجملةِ. والالتفاتُ إلى الغيبةِ للإيذانِ باقتضاءِ حالِهِم للإعراضِ عنهُم وبيانِ قبائِحِهِم لغيرِهِم. والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ لذمِّهِم بالكُفرِ وتعليلِ غرورِهِم بهِ. والكلامُ في قوله تعالى: {أَمَّنْ هذا الذى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ} أي الله عزَّ وجلَّ {رِزْقَهُ} بإمساكِ المطرِ وسائرِ مباديهِ كالذي مرَّ تفصيلُه خَلا أنَّ قولَه تعالَى: {بَل لَّجُّواْ فِى عُتُوّ وَنُفُورٍ} منبىءٌ عن مقدَّرٍ يستدعيهِ المقامُ كأنَّه قيلَ إثرَ تمامِ التبكيتِ والتعجيزِ لم يتأثروا بذلكَ ولم يُذعنُوا للحقِّ بل لجُّوا وتمادَوا في عتوَ، أي عنادٍ واستكبارٍ وطغيانٍ ونفورٍ أيْ شرادٍ عن الحقِّ.

1 | 2 | 3